التخطي إلى المحتوى

إن من أشد بلاءات الأمة، هو انصرافها عن تعاليم دينها، والانسياق وراء دنياهم، وقد نزعوا من بينهم الوازع الديني، والضمير الإلهي، الذي من شأنه أن يرد المعتدي على حقوق نفسه قبل حقوق الآخرين، لأن الدين نزل لسعادة البشرية، ولحفظ مكوناتها، وأهم مكون هو الانسان، حيث نزلت الشرائع لتحفظ للإنسان الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
فتجد الانسان يرتع في الدنيا، متناسياً بل متجاهلاً أن الشرائع ما جاءت لترهقه أو تعوقه أو تقلل من متعته بدنياه، بل جاءت لتنظم له حياته، وترفع عنه عناء التخبط، وكل ذلك لا يتعارض مع بناء الدنيا وعمارتها والارتقاء بشئون حياته، من حيث التقدم والتطور وتطويع كل ما وهب الله له من أدوات تعينه وتقويه على عملية الإعمار.
إلا أن ظهور نماذج من رجال الدين الذين يعمدون لاستغلال الدين في تركيع الناس، عن طريق تخويفهم من سلوكيات حياتية، بغرض السيطرة عليهم، ودفعهم ليكونوا مأمورين بأوامرهم ومنتهين بنهيهم، حتى لا يخرجون عن طوعهم، ويضمنوا ولاءهم لهم، وانصياعهم لقراراتهم. هؤلاء الذين يدسون الأمر والنهي من عنديتهم، ثم ينسبونه لرسول الله أياً كان هذا الرسول، ثم يعلون السنة المشوهة، على كتبا الله، ثم في مرحلة أخرى، يعلون أقوال الأئمة على السنة، حتى يقولون “لحوم العلماء مسمومة” ليخيفوا العوام من ابداء آرائهم، أو الاعتراض على شطط العلماء.
ونجد هؤلاء يحرمون على الناس التفكير، رغم أن لكلٍ منا عقل يفكر به يميز الخبيث من الطيب، إلا أنهم يرفضون هذا التفكير وتلك المحاولة لإعمال العقل الذي هو مناط التكليف، بدعوى “ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا” ونسوا أن ما يرددون في آذان العامة، به الكثير من الأوامر والنواهي التي لم تأتي على ألسنة الرسل والأنبياء.
فنحن لم نعرف عن عيسى عليه السلام أنه قال بأن المسلمين يبغضون النصارى، كما يعلمهم أحد قساوسة أميريكا، كما جاء في حوار سيدة أميريكية معي، والتي أكدت أن تعاليم القس تقول “أن المسلمين يبغضوننا ويعملون على التخلص منا” وفوجئت أن بالقرآن آية تحرم قتل النفس – أي نفس – بغير حق أو بغير نفس أو فساد في الأرض. ولما أوضحت لها أن غرض هذا القس هو استمرار خوفهم من المسلمين، حتى تستمر أيديهم تضع التبرعات في صناديق الكنيسة بسخاء.

[ads2]
كما أننا لم نعرف ولا نصدق أن رسول الإنسانية أتى لسفك الدم أو لقتل كل من يرفض الدخول في الإسلام، وكأنهم نسخوا آيات الرحمة والتسامح من القرآن، والتي تؤكد أن الله ما أرسله إلا رحمة للعالمين، وأيضاً قوله تعالى لرسوله “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”، وإذا ما أبديت رأيك فيما يدعيه هذا الشيخ أو ذاك الإمام، يصمونك بتهمة ازدراء الدين وقد يخرجونك عن الملَّة بدعوى التطاول على العلماء، رغم أنهم هم الذين أدخلوا على الدين ما ليس منه، من الكراهية والبغض لمن خالفهم، ومن ادعاء على الإسلام ونبي الرحمة ما لم يأتِ به في قولٍ أو فعل.
وإن شيوخاً عمدوا لتربية أتباعهم على غلظة الفكر وشدة القول وعنف التصرف، أخرجوا الدين من مضمونه السهل وهدفه السامي، وهو ترغيب الناس وتحبيبهم في دين ربهم، حتى قال الإمام محمد الغزالي “إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم”.

[ads1]

والملاحظ أن كثيرّ ممن يتصدرون عالم الفتوى داخل أروقة جماعات التدين، هم ممن تدنى تعليمهم بل وانعدم، فاتجهوا للتدين، بكل ما في داخلهم من أمراضٍ نفسية وكراهيةٍ للمجتمع وضحالة للفكر وانعدام للمنطق وتجميد للعقل، فتكون نتيجة ذلك كله تجرؤ على الدين رباً ورسولاً وتعاليم سمحة.
هذه الفئات من رجال الدين الذين خلقوا فتنة في قلوب وعقول أتباعهم، بأن سيطروا عليهم بداعي التقرب الى الله عن طريق رفض التفكير وكراهية كل من لا يتبع طريقتهم، وكأن الإسلام اقتصر على ما يسلكون من تكفير كل من عداهم إذا اختلف معهم في الرأي، هم أخطر نوعيات البشر على دين الله، وهم من يعوقون تقدم الأمم، لأن الدين ما جاء للإجهاز أو التخلص من كل من يخالفنا، وهذا ما نراه من اتجاههم لجهادٍ في قلب بلاد الإسلام، ضد المسلمين، بدلاً من أن يواجهوا معتدي على أرض مسلمة كإسرائيل، بل وصلت بهم الدرجة أن يقدموا أولوية اسقاط الأنظمة العربية على جهاد الصهاينة، بشكلٍ يجعل المتأمل يوقن أنهم عملاء لأميريكا وإسرائيل بعلمٍ أو بغير علم.
إن إعلاء مبدأ التكفير على التفكير، وتعطيل آيات لحساب سيادة فتاوى وأقوال مدعو العلم، هو في حقيقة الأمر ليس من الدين في شيء، بل هدفه تطويع الدين واستغلال عقول غضة، لتنفيذ خطط التفتيت في أوطاننا. وسوف نتناول أشكال هذا التطويع وركوب الشريعة لأغراضٍ نفسية دنيوية، في مقالات قادمة إن شاء الله.
نسأل الله أن يحفظ علينا دنيانا بحفظ ديننا، وأن ينجينا من فتنة الفتاوى .. آمين