التخطي إلى المحتوى

كتب :محمد غنيم
مرت علينا ذكري وفاة “فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي ” منذ أيام، وهو واحد من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العالميين، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين ،كان دوستويفسكي إنسانًا أبيًا وعنيدًا في الدفاع عن معتقداته، وقد ترك ذلك كل بصماته على أعماله ،وتعد أعماله مصدر إلهام للفكر والأدب المعاصر، كما يذكر أنه مؤسس مذهب الوجودية.
شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت .
ولد “دوستويفسكي” في 11 نوفمبر_تشرين الثاني عام 1821 بموسكو في أسرة طبيب عسكري ينحدر من فئة رجال الدين منح لقاء استقامته في الخدمة لقب نبيل، وكانت أمه تنتمي إلى فئة التجار،وكان أبوه رجلا صعب الطباع وعلاوة على ذلك كان مريضا بالصرع الذي انتقل بالوراثة إلى ابنه،أما أمه فربت فيه المشاعر الدينية العميقة، ومنذ صباه ولع دوستويفسكي بميول التمرد وانبهر بالطموحات المثالية للكاتب الألماني شيلر، و روايات ديكنز الذي كان يجيد أثارة العطف على الناس المهانين.

كان يعيش في بطرسبورغ حيث تخرج من كلية الهندسة، لكنه لم يلتحق بالوظيفة، إذ لمس في نفسه أنه أديب بالفطرة،وتعرف فيدور دوستويفسكي عن قرب بالناقد الروسي البارز فيساريون بلنسكي الذي كان يتزعم كوكبة من الأدباء الشبان من أنصار ما يسمى بـ “المدرسة الطبيعية” وهي التسمية التي اصطلح آنذاك على إطلاقها على أدباء الاتجاه الواقعي، ثم توالت بعد رواية “المساكين” أعمال الكاتب الأخرى “المثل”(أو الشبه) و” ربة المنزل”و”الليالي البيضاء” التي كشفت عن جوانب جديدة من موهبته لكنها لم تجلب له اهتمام الناس،وانضم فيودور دوستويفسكي إلى حلقة “زملاء بيتراشيفسكي” الذين اسسوا جماعة شبه سرية،وتمكنت الشرطة من تتبع الجماعة حتى القت القبض على أعضائها في ربيع عام 1849،وحكم على دوستويفسكي بالإعدام، لكنه في آخر لحظة وقبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه صدر مرسوم قيصري يقضى باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الأعمال الشاقة في مقاطعة أومسك بسيبيريا، وعايش دوستويفسكي عمليا وهو واقف على منصة الإعدام ويتدلى فوق رأسه حبل المشنقة، عايش طقوس تنفيذ حكم الإعدام التي ضلت تلازمه طوال حياته، وقد وصف هذا المشهد الرهيب في روايته “الأبله”.

وقد وصف حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة في كتابه “ذكريات من منزل الأموات”، وعلاوة على ذلك التحق بالخدمة العسكرية جنديا في سيبيريا، ولم يتمكن الكاتب من العودة إلى الحياة الطبيعية وممارسة نشاطه الأدبي بحرية إلابعد وفاة القيصر نيكولاي الأول،احيل دوستويفسكي عام 1859 إلى معاشا لتقاعد لسوء صحته بعد أن ترقى إلى رتبة ملازم أول في الجيش القيصري،ونال ترخيصا بأن يعيش في مدينة تفير في شمال غرب روسيا، وظل تحت رقابة الشرطة حتى عام 1870، وساعد دوستويفسكي شقيقه ميخائيل في اصدار مجلة اطلق عليها “الزمان”. وبعد اغلاق تلك المجلة اعيد اصدارها تحت عنوان ” العصر” ونشر دوستويفسكي بهاتين المجلتين مؤلفاته “ذكريات من منزل الأموات” و” مذلون ومهانون” و”رسائل من القبو السري “.

قام دوستويفسكي في مطلع ستينات القرن التاسع عشر بزيارة البلدان الغربية حيث أولع هناك بلعب القمار ،الأمر الذي جعله يواجه دوماً حاجة ماسة إلى الأموال واضطره إلى عقد صفقات غير عادلة مع اصحاب النشر والطباعة لإصدار رواياته ، ومن أجل الإسراع في كتابة روايته الشهيرة “الجريمة والعقاب” عقد دوستويفسكي اتفاقاً مع كاتبة اختزال شابة اسمها آنا سنيتكينا التي تزوجها فيما بعد،وقامت سنيتكينا بتسيير الأمور المالية لزوجها ودافعت عن حقوقه لدى نشر روايته الجديدة مما ساعده في الحصول على مبلغ لا بأس به مقابل عمله الادبي،وتعهد دوستويفسكي مقابل ذلك لزوجته بأن يتخلي عن القمار نهائياً ، لكن هذا الموضوع ظهر مجددا على صفحات روايته الجديدة “المقامر” التي صدرت عام 1866.
عاش دوستويفسكي الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في مدينة ستارايا روزا بمحافظة نوفغورود بشمال غرب روسيا، وتعد هذه المرحلة مثمرة في نتاجه الأدبي حين أبدع روايات “الشياطين” عام 1872 و”المراهق” عام 1875 و” الأخوة كارامازوف” عام 1880، وذاع صيته في روسيا كلها وخاصة بعد القائه كلمة مشهورة في مراسم افتتاح تمثال الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين في موسكو، لكن المجد الحقيقي واكليل الغار نزلا على دوستويفسكي بعد وفاته، واعترف الفيلوسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشه أن دوستويفسكي كان بالنسبة له سيكولوجيا وحيدا جديرا بالتعلم منه.

ذاعت شهرة دوستويفسكي عندما صدرت روايته مذكرات من باطن الأرض (1864م)، وهي دراسة نفسية عن عدم التكيُّف الروحي والفكري،وقد بلغ ذروة نجاحه بصدور رواياته الأربع المعروفة والتي تُعدّ من روائع الأدب العالمي،تدور إحدى هذه الروايات، الجريمة والعقاب (1866م)، حول طالب يرتكب جريمة قتل، لتوهّمِه بأنه متفوق على معظم الناس، ولكنه يفشل في مواجهة النتائج الشنيعة لجرمه. وفي رواية الأبله (1868م – 1869م)، يحاول دوستويفسكي أن يرسم صورة لشخصية نصرانية طيبة. وفي الرواية الثالثة الممسوس(1871م – 1872م)، والتي نشرت أيضًا باسم الشياطين، يضع تصوراً للثوار الروس الذين توقع مجيئهم في المستقبل،أما أعظم أعمال دوستويفسكي فهي روايته الإخوة كارامازوف(1879م – 1880م)، التي تدور حول مقتل الشرير فيودور كرامازوف وتأثير هذه الجريمة على أبنائه الأربعة.
برز دوستويفسكي في أعماله المتأخرة رائدًا للتحليل النفسي، وواحدًا من أبرز المفكرين النصارى؛ حيث نفذ إلى أعماق النفس البشرية ووضع الأساس للعديد من الأفكار التي بُنيت عليها الحركة التي عُرفت فيما بعد بالوجودية.

فارق دوستويفسكي الحياة عام 1881 فمشى في جنازته ثلاثون ألف شخص تقريباً،وعم الحزن روسيا كلها.